His Beatitude Cyrille IX Moghabghab
Patriarch of Antioch and Orient (1925/12/08 - 1947/09/08). Ain Zhalta native, 18th in the line of Melkite Greek Catholic Patriarchs since 1724.
غبطة السيد كيرلس المغبغب
بطريرك الروم الكاثوليك
ولد في عين زحلتا البلد الجميل في جبال الشوف وتعمد بعد شهر من مولده في العاشر من شهر تشرين الثاني سنة 1855 وترعرع بين جبال غناء وسماء زرقاء ونسمات صافية تخلب الألباب وتربى تربية صالحة في اسرته النبيلة على يد أبيه الجليل خوري تلك القرية ولما أنس فيه والده ميلا إلى العلم والتقوى أرسله إلى عين تراز المدرسة البطريركية الاكليريكية فلبث فيها سنتين ممتازاً بذكائه وأدبه وانصبابه على الدروس فأرسله بعدهما السعيد الذكر البطريرك غريغوريوس يوسف إلى مدرسة البروبغند برومية عاصمة الكثلكة فوصل إليها في 30 تشرين أول سنة 1873 فأكب فيها أولاً على تلقن اللغات اللاتينية والطليانية واليونانية والعبرانية فأتقنها ونال من الرياضيات والتاريخ والخطابة والبيان وسواها القدح المعلى حتى كان يشار اليه بالبنان بين الشرقيين والغربيين رفاقه، وبدأ في سنة 1877 بالفلسفة واللاهوت فعدّ فيهما من المبرزين وأحرز شهادتيهما مع لقب ملفان فيهما، وفي 35 آذار سنة 1883 درّجه بالدرجات الصغرى المثلث الرحمة المطران استفانويولي الكورسكي، وفي 27 من الشهر نفسه نال الرسامة الكهنوتية في رومية من المطران ذاته ولما أتم كل دروسه الكهنوتية والعصرية دعاه السيد البطريرك غريغوريوس إلى عين تراز وأقامه مديراً عاماً لمدرستها الاكليريكية العامة ولبث فيها من سنة 1885 إلى سنة 1890 ثم سافر إلى باريس وليون وقضى فيهما حيناً من الدهر إلى سنة 1895 وعاد رئيساً على المدرسة المذكورة. وقد أبدى في كل هذه الوظائف من رفيع الصفات ونادر الكفاءة ما جعل المثلث الرحمة المطران جرمانوس معقد يرشحه منذ ذلك الحين إلى المقام البطريركي على أثر وفاة البطريرك غريغوريوس يوسف.
ولكن البطريركية كانت قد تهيأت للبطريرك بطرس الجريجيري المطوب الذكر وفي عهده أقفلت مدرسة عين تراز في سنة 1898 فاتخذ رئيسها الارشمندريت كيرلس المغبغب كاتماً لأسراره واستصحبه معه في زياراته الابرشيات الطائفية وفي رحلاته إلى رومية والاستانة واذ كان في عاصمة الاتراك رسمه مطراناً على ابرشية الفرزل وزحله والبقاع في 38 من شهر أيار سنة 1899 في الأحد الأول بعد العنصرة وقد أبقاه معه مدة الزمان، ثم أتى المطران الجديد إلى زحلة فاستقبله أهاليها استقبالاً باهراً وأظهروا ابتهاجهم وسرورهم بالراعي المملؤ غيرة ونشاطاً وعلماً وخبرة.
فأقام بين ظهرانيهم مدة يدير شؤون الأبرشية بحزم ودراية إلى أن زار عامة القرى المختصة به زيارته الأولى الرعائية وشاهد بأم العين ما تحتاج اليه من المدارس والكنائس ودور السكن للكهنة وشرع يعمل الفكرة إلى انهاض تلك الأبرشية روحياً ومادياً واجتماعياً فقصد عاصمة الكثلكة ورفع إلى السعيد الذكر البابا لاون الثالث عشر والكردينال غوتي رئيس مجمع انتشار الايمان تقريراً عن حالة أبرشيته وشدة احتياجها وفقرها فوقع هذا التقرير عندهما موقع الاعتبار والرضى وسلما اليه اجازة مطلقة غير مقيدة بمكان أو زمان يتجول في أنحاء أوروبا وأمريكا لجمع التبرعات فقضى أولاً مدة في ما بين سويسرا ولكسمبورج وبلجيكا وهولندا حيث قاسى برداً قارساً على أنه لما كان في رومية رسم فيها كاهناً وشماسين وقد حضر رسامتهما أسقف مدينة برنامبوكو من ولايات البرازيل واذ وقف هذا على ما ينويه سيادة الحبر الشرقي في الرحلة الى أميركا دعاه الى النزول عنده دعوة خصوصية فما لبث أن انطلق الى البرازيل وأقام عنده أربعين يوماً على الرحب والسعة والحفاوة اللائقة بمقامه والتقى هناك بنيافة القاصد الرسولي المنسنيور طونطي الذي كان سابقاً استاذ اللاهوت والكتاب المقدس بمدرسة البروبغندا فسرّ به سروراً عظيماً والتفت اليه التفاتاً خاصاً ثم شرع يتجول في الأبرشيات من برنامكو الى ريو دي جانيرو فزار كل الأماكن التي يقيم فيها السوريون وكان حيث يحل بينهم يستقبلونه استقبالاً باهراً ويفتقد أحوالهم واعظاً ومعلماً مذكراً اياهم بواجباتهم الدينية وبوطنهم المحبوب ويتمم لهم فروضهم الروحية حتى تعشقه القلوب ولهجت جميع الجرائد الوطنية والسورية بحسن صفاته، ونجح في سعيه الخيري نجاحاً عظيماً ومن ريو دي جانيرو شخص الى منتفيديو وراكواي وأقام فيها مدة واصل في خلالها أعماله الرسولية ولاقى من السوريين نفس الحفاوة والاكرام اللذين لاقاهما في سواها ولما مر بسان باولو اشترى أرضاً مساحتها ألف متر مربع.
وانتقل الى الجمهورية الفضية وحل ضيفاً كريماً في دار رئيس اساقفتها الذي كان في ذلك الوقت غائباً عن مركزه وزاره رئيس الجمهورية زيارة رسمية ولاقى منه كل حفاوة واحترام حتى أن حكومة الأرجنتين قد خصصت له ولحاشيته عربات ممتازة في السكة الحديدية وأمرت أن تكون على حسابها كل أسفاره التي يسافرها على خطوطها الحديدية فطاف في سبع ولايات من ولاياتها وكان حيثما حل مظهراً للاكرام.
وبعد ذلك توجه الى تشيلي التي كانت بعيدة المشقة صعبة المواصلات فكان أمامه أولاً سلسلة الجبال الهائلة المدعوة نوسيندوس المكلّلة بالثلوج الدائمة فقطعها على ظهور البغال مسافة ست ساعات وكانت القافلة مؤلفة من مئة وخمسين مسافراً وأكمل سفره مراراً في العربات وغيرها من السكة الحديدية حتى بلغ في سنة 1906 الى مدينة سانتياغو وفيها دير الآباء اليسوعيين وطفق يتجول في الجهة الجنوبية تم الشمالية حيث قضى عدة أشهر في مدينة بوليفيا ومنها مر بالاكواتور الى الارجنتين فجمايكا وكوبا وبانما والمكسيك وفي البانما رأى حملات الوطنيين على السوريين وينسبونهم الى الجنس الأصفر ويقبضون عليهم ويزجونهم في السجون فاخذته الشفقة والغيرة عليهم وهب يدافع عنهم وعن مصالحهم ذلك الدفاع المجيد بحيث أطلق أولاً المسجونين ثم كتب مقالة مسهبة باللغة الاسبانيولية محاماة عن السوريين ووزعها على مجلس النواب فاثبت فيها أنهم من الجنس الأبيض وأنهم من الشعوب المتمدنة الراقية بحجج دامغة حتى تمكن من اقناع الحكومة والوطنيين بحقيقة تلك القضية ومن الكف عن مقاومة السوريين فقدم لمواطنيه في بلاد المهجر اجل خدمة أطلقت السنتهم بأطيب الثناء والشكر له على هذه المأثرة العظيمة. ثم انطلق الى كولون فجمايكا فكوبا فالمكسيك فبراكوز فالعاصمة حيث زار كبار المكسيكيين ومضى منها الى الولايات المتحدة لمشاهدة ذويه وعاد الى اوروبا عن طريق الهافر فقضى مدة في باريس وليون طلباً للراحة من مشقات الاسفار وبعدها قفل راجعاً الى الوطن فوصل الى زحلة في 14 آب 1907 ليلة عيد انتقال السيدة وكان الزحليون قد هبوا لاستقباله استقبالاُ عظيماً بعد غياب دام أربع سنوات ونصف قاسى في خلالها مضضا كبيراً وتعباً شديداّ وذلك رغبة في تمجيد الله وخير النفوس الموكولة إلى رعايته الأبوية.
ومنذ ذلك الحين شمر عن ساعد الجد والنشاط وأخذ ينشئ من الأعمال والبنايات في الأماكن المختلفة من الأبرشية، وقد شاد ثلاث عشرة كنيسة ومثلها مدرسة ودوراً للكهنة وكان قبل وصوله إلى الوطن قد قدم مبلغاً وافراً لنائبه الاكسرخوس اندراوس مقصود وبنى به الدار الاسقفية بعناية كبيرة حتى جاءت اجمل الاسقفيات سعة وهندسة واتقاناً ولا حاجة إلى تعداد الكنائس والمعاهد العلمية والمستشفى فهي أثار ناطقة أشهر من نار على علم وقد تقدر نفقاتها بما يزيد عن مئة ألف ليرة عثمانية ذهباً وقد أنشأ في الفرزل الميتم الكبير والصرح العلمي الواسع ما يخلد اسمه على تمادي الأجيال وهو لا يزال تحت اشرافه وادارته ينفق في سبيل ترقيته وازدهاره النفقات الطائلة ويرسل اليه نخبة من رجاله لادارته ومتابعة الخير على أيتامه وطلابه.
على أن الصعوبات والمشاكل التي تعترضه في مشاريعه وأعماله الخيرية وفروضه المقدسة كان يلاقيها بحنان ثابت وعزيمة ماضية فيحللها وينتصر عليها ولا غرو فهو المقدام الجريء والقدير في الادارة الاجتماعية والكبير في حرية الفكر والضمير لا يهاب التصريح بالحق ولا يثنيه عن القيام بالواجب تهديد أو تهويل ويشهد له بذلك مواقفه العديدة بازاء الحكام الاتراك ولاسيما بازاء الطاغية الجبار جمال باشا الذي كان يروم الانتقم من زحلة ويسعى في خرابها وتمزيق شملها وتفريق أعيانها وانزال أشد العقوبات ف قف لمبغب أمامه وأمام مجلسه بجرأة ودافع عن بيته ومواطنيه مدافعة لم يزل يتردد صداها في كل لبنان وبقيت زحلة عروسة لبنان واقفة وقفة الجلمود ازاء طغيان البحر وأمواجه وسلمت تلك المدينة الزاهرة من مخالب الطاغية المستبد بفضل حبرها المقدام وزعيمها الكبير المغبغب وكم من مواقف شريفة تجاه الجمعيات السرية المختلفة ومحاولتها لهدم الدين والمجتمع الانساني فقد جاهد في سبيل الكنيسة والدين وأربابه جهاداً مطرداً حتى بلغ الاساقفة والبطاركة الكاثوليكيين الشرقيين ما فعله المغبغب في أبرشيته فأثبتوا على جرأته أمام العواصف المريعة.
على أنه وإن كان زعيماً دينياً عظيماً تخشع له الأبصار رهبةً وجلالاً فهو زعيم كبير في لبنان وسوريا والانحاء المصرية فلهذا لما وضعت الحرب اوزارها واحتلت جيوش الحلفاء الأقطار السورية بدأ يعمل بكل ما أوتي به من قوة ونشاط وغيره وذكاء لخير مواطنيه وبلاده.
وقد شخص إلى عاصمة الفرنسيس مرتين للمطالبة بحقوق لبنان وباستقلاله تحت الانتداب الفرنسي ولاقى فيها من رئيس جمهوريتها ووزرائها ورجال المؤتمر كل اكرام واجلال ووضع لذلك تقارير مسهبة استحسنها رجال السياسة وقابلوها بالرضى والارتياح ففي رحلته الأولى بشهر آب سنة 1919 بقي خمسة أشهر يسعى مع شيخ لبنان غبطة البطريرك الياس الحويك بكل نشاط لراحة لبنان وسعادته وكان هناك قوم افاضل يهتمون لنفس الغاية الحميدة كالمطران اغناطيوس مبارك وشكرالله الخوري وبولس فغالي وغيرهم من رجال السياسة وكان موفداً من قبل البطريرك ديمتريوس قاضي لينوب عن كاثوليك لبنان وأساقفته ومنتخباً من أهالي البقاع وبعلبك وراشيا وبيروت من مسيحيين ليطالب بحقوق لبنان في مؤتمر باريس وقد عاد مع بطريرك الطائفة المارونية في 25 كانون الأول سنة 1919 ظافراً بامانيه وأماني مواطنيه فضفر له لبنان اكليلاً من غاره وخلد له اسماً بين أبطال القضية اللبنانية.
وفي رحلته الثانية إلى باريس في آذار سنة 1925 دعاه فخامة الجنرال غورو وأوفده للغاية نفسها مع المطران عبدالله الخوري وأميل بك اده والمير توفيق ارسلان والشيخ يوسف الجميل فلبث سبعة أشهر وعاد قرير العين بما أصاب من النجاح الباهر ولم يزل لبنان يعترف بجميله ويعدّه من قادته وزعمائه العظام.